استنطاء هذيل ... وعنعنة تميم: تحريف لكتاب الله

استنطاء هذيل .. وعنعنة تميم: تحريف لكتاب الله

 

بقلم د. محمد بن محمود حوا

 

اطلعت على مقال نشر في جريدة الرياض السعودية عدد الثلاثاء 9 ربيع الأخر 1429هـ -15 أبريل 2008م - العدد 14540تحت عنوان (استنطاء هُذيل .. وعنعنة تميم)

يقول فيه الكاتب: ( قبل فترة دخلت مسجد قباء متأخرا فصليت مع جماعة من الزوار من خارج المملكة.. وبعد الفاتحة قرأ الإمام سورة الكوثر بلفظ { إنا أنطيناك الكوثر} فرد عليه رجل من "ربعنا" { إنا أعطيناك الكوثر} فعاد الإمام وقرأها { إنا أنطيناك الكوثر} فرد عليه الرجل مرتين وثلاثاً بدون أن يتزحزح الإمام عن موقفه..

وبعد انتهاء الصلاة ألقى "المأموم" محاضرة على "الزائرين" ناصحا إياهم بتعديل لسانهم المعووج ومذكرا فيها بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين (.. ولم يعلم سيادته أنه نزل أيضا على سبعة أحرف)!! )

وذكر الكاتب قصة سمعها من أحد أصدقائه فقال: (وكنت قد سمعت قصة مشابهة من أحد الأصدقاء حيث قرأ الإمام الفاتحة { اهدنا الزراط المستقيم} فرد عليه الناس { الصراط المستقيم} فعاد وقال { الزراط المستقيم} فردوا عليه مرتين وثلاثاً { الصراط المستقيم} ولكنه أصر على موقفه الأمر الذي جعل أحد المصلين يقول بصوت مرتفع: الصراط المستقيم أو اترك الإمامة لغيرك...).

ثم قاس عليها قياساً عجيباً فقال: (ومواقف كهذه ظهرت منذ عهد النبوة حيث خفي حتى على بعض الصحابة الوجوه المتعددة لقراءة القرآن الكريم (مثل عمر بن الخطاب الذي سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على حروف لم يسمعها من قبل) وجميعها انتهت بإجازتها من قبل الرسول r..)

وأيد كلامه بنقل نقله عن الإمام الزركشي (يقول الزركشي: نزل القرآن بعضه بلغة قريش، وبعضه بلغه هذيل، وبعضه بلغة تميم، وبعضه بلغة أزد وربيعه، وبعضه بلغة هوازن وسعد) ثم أضاف بعد كلام الزركشي فقال: (وهكذا ... وهذه اللهجات (رغم أنها عربية) إلا أن مخارجها وألفاظها توافق مخارج وألفاظ الحروف في اللغات الأجنبية كالفارسية والحبشية والهندية والتركية (ومن هنا ظهر علم القراءات وأصبح لكل بلد قراءته التي يشتهر بها)!!

ثم أقر الكاتب بقوله: (... ورغم أنني لست ضليعا في علم القراءات - ولا لهجات العرب ومخارج الحروف - ولكنني أرى في هذا العلم مغزيين عظيمين يجب على الجميع استيعابهما:

... الأول: احترام ثقافات ولهجات الآخرين... والثاني: أن لا تتخذ أي جهة من نفسها مرجعا للغة والدين!!)

وليس من عادتي أن أتابع مقالات كتاب الصحف، لكن لتعلق الأمر بكتاب الله تعالى وقد سئلت عن المقالة أحببت أن أبين بعض الإشكالات في المقال لا سيما لأنه ليس ضليعاً في علم القراءات ومخارج الحروف. ولا أدري لماذا تكلم في هذا العلم وليس ضليعاً فيه؟

ولي مع مقاله وقفات :

الوقفة الأولى: استنكاره على من نصح المصلين بتصحيح تلاوتهم للقرآن، وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة الواجبة لكتاب الله تعالى وينبغي أن يكون طبعاً بالأسلوب المناسب وبالحكمة؛ لأنه لا يجوز  للمسلم أن يقرأ القرآن إلا كما أنزله الله تعالى. يقول ابن الجزري: (فمن قدر على تصحيح كلام الله تعالى: باللفظ الصحيح العربي الفصيح، وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح استغناء بنفسه واستبداداً برأيه وحدسه، واتكالاً على ما ألف من حفظه واستكباراً عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه، فإنه مقصر بلا شك وآثم بلا ريب وغاش بلا مريه، فقد قال رسول الله r: ((الدين النصيحة، لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))([1]) أما من كان لا يطاوعه لسانه، أو لا يجد من يهديه إلى الصواب بيانه فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها)([2]).

الوقفة الثانية: قوله (.. ولم يعلم سيادته – أي الناصح - أنه نزل أيضا على سبعة أحرف) سواء علم أو لم يعلم فهو أدى ما عليه وفق ما يعلمه، فهل علمت أيها الكاتب إن كان لفظ (أنطيناك) نزل ضمن الأحرف السبعة التي (نزلت) على رسول الله r ومن أين وجدتها؛ لأن مدار الأحرف السبعة على ما أنزله الله على رسوله r ولذلك لما اختلف عمر بن الخطاب وهشام في القصة التي أشرت إليها كان حجة كل منهم أنه يقرأ كما أقرأه رسول الله r وكان قول النبي لكليهما (هكذا أنزلت) ثم بين لهما أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. فليس لأحد أن يغير من أحرف القرآن شيئاً بحجة أنه نزل على سبعة أحرف ما لم يكن ذلك متواتراً عن رسول الله r.

الوقفة الثالثة: قياسه (أنطيناك) على (الصراط) بإشمام الصاد زاياً وهو قياس غير صحيح، ولا أدري هل يعذر لأنه غير ضليع، حيث قاس كلمة لم يقرأ بها رسول الله ولم ينزل بها القرآن وهي (أنطيناك) على كلمة ثابتة عن رسول الله r في قراءة حمزة المتواترة وهي (الصراط).

الوقفة الرابعة: قوله بعد أن نقل كلام الزركشي (وهكذا ... وهذه اللهجات (رغم أنها عربية) إلا أن مخارجها وألفاظها توافق مخارج وألفاظ الحروف في اللغات الأجنبية كالفارسية والحبشية والهندية والتركية ومن هنا ظهر علم القراءات وأصبح لكل بلد قراءته التي يشتهر بها)!! والذي أفهمه من هذا الكلام – وأرجو أن أكون مخطئاً- أن الكاتب يفسر سبب اختلاف القراءات بسبب اختلاف لغات البلاد التي دخل إليها الإسلام حيث تتوافق مخارج حروف تلك اللغات مع مخارج حروف اللغة العربية في بعض لهجاتها فإذا كان هذا ما يقصده فهو خطأ جسيم ، فمرجع اختلاف القراءات العشر اليوم إنما هو إلى ما نقله الناقلون من أئمة القراءة بأسانيدهم المتصلة إلى النبي r بالكيفيات التي أنزلت عليه r بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام وكتبت في المصاحف التي أمر بنسخها الخليفة عثمان t وبعث بها إلى الأمصار وبعث مع كل مصحف معلماً من الصحابة يقرئ الناس بما في ذلك المصحف من أوجه القراءة المتواترة عن رسول الله r.

الوقفة الخامسة: قوله تعليقاً على القصة التي ذكر (... وما يحدث في مثل هذه المواقف أن الإمام يقرأ غالبا على "حرف" يناسب لهجته المحلية في حين لا يعرف المأمومون جواز قراءة القرآن على هذا الحرف أو ذاك.. ) ينبغي أن يُعلم أن هناك لهجات عربية متعددة منها ما نزل به القرآن ، وهناك عشرات اللهجات العربية لم ينزل بها القرآن وبالتالي لم يقرئ بها النبي r أصحابه وإن كانوا من أهل تلك اللهجات، فاختلاف الأحرف السبعة ليس تابعاً لاجتهاد كل إنسان ولهجته كما يفهم الأخ كاتب المقالة بدليل أن هناك أحرف عند العرب لم ينزل بها القرآن كإبدال العين همزة وإبدال الكاف شينا والجيم ياء وبالتالي لا يجوز بحال أن يقرأ القرآن بهذه اللهجات لأن القرآن لم ينزل بها، وما نزل به القرآن من اللهجات محصور في القراءات المعروفة عند علماء القراءة.

الوقفة السادسة: قوله: (... ورغم أنني لست ضليعا في علم القراءات - ولا لهجات العرب ومخارج الحروف - ولكنني أرى في هذا العلم مغزيين عظيمين يجب على الجميع استيعابهما: ... الأول: احترام ثقافات ولهجات الآخرين... والثاني: أن لا تتخذ أي جهة من نفسها مرجعا للغة والدين!!)

فعلى الأخ الكاتب أن يعلم أن المغزيين اللذان يجب على الجميع استيعابهما مردودان بنص القرآن الكريم:

فالأول: مردود بأن احترام اللهجات لا يكون في قراءة القرآن بغير ما أنزله الله تعالى وإن كان من اللهجات العربية المشهورة عند العوام في بعض القبائل والدول، ولا يحق لأحد أن يغير حرفاً من كتاب الله تعالى ولو خالف لهجته لقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس : 15) فإذا كان رسول الله ليس له أن يبدل في القرآن فكيف بغيره. هذا في القرآن.

وأما فيما سواه فلا احترام لأي ثقافة تناقض ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، مع العلم بأن عدم الاحترام شيء وترك الإساءة شيء آخر، فترك الإساءة مطلوب لكن الاحترام غير لازم تجاه كل الثقافات.

والثاني مردود بأن أهل العلم هم المرجع في الدين وقد نص الله على ذلك بقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء : 83) وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل 43-44).

والذين يستنبطونه هم أهل العلم بالشريعة وأصولها، وأهل الذكر في قراءة القرآن هم علماء القراءة والتجويد. ولذلك ينبغي للواحد منا قبل أن يطالب باحترام ثقافات الآخرين أن يحترم تخصصات الآخرين وأن لا يتكلم في كتاب الله بغير علم حتى لا يكون كمن قال الله تعالى فيهم من الأمم السابقة {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران : 78 )

ولنزول القرآن على سبعة أحرف حكم غير هذه الذي توهمها الكاتب في مقاله، ومن هذه الحكم على سبيل الإجمال:

  1. التخفيف على الأمة وإرادة التيسير بها، وهذا واضح في قول النبي في بعض روايات حديث الأحرف السبعة r (هوِّن على أمتي) (وإن أمتي لا تطيق ذلك).
  2. إعجاز القرآن في معانيه وأحكامه، فتنوع القراءات تبعه تنوع في المعاني، وزيادة في الأحكام.
  3. الأحرف السبعة حفظت لغة العرب من الضياع، لتضمنها أفصح لهجاتها.
  4. في الأحرف السبعة دلالة قاطعة على مصدر القرآن وصدقه، فمع كثرة أوجه الاختلاف وتنوعها ليس فيه تضاد ولا تناقض، بل كله يصدق بعضه بعضاً.
  5. بيان فضل الأمة المحمدية بتلقيها كتاب ربها والاعتناء به مما يزيد في أجور العاملين بكتاب الله تلاوة وحفظاً ودراسة واستنباطاً للأحكام والمعاني.
  6. الأحرف السبعة خصيصة خاصة بالأمة المحمدية، لأن الكتب السابقة كانت تنْزل على وجه واحد، وأُوكِل حفظها للأمم السابقة، بينما نزل القرآن على سبعة أحرف،  وتكفل لله بحفظه وصيانته وقيض له في كل عصر ومصر من يحفظه ويتلوه ويعلّمه بأوجهه المختلفة.

وإذا كان مراد الأخ الكاتب في المغزى الثاني أن لا تحصر المرجعية في رأي واحد في قضايا الفقه التي مرجعها إلى الاجتهاد فهذا صحيح، ولكن يبدو أن الأخ لم يعبر عنه بالشكل الصحيح.

أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه.

والله تعالى أعلم

 

 

([1]) أخرجه البخاري ج1/ص30، ومسلم ج1/74.

([2]) النشر 2/210-211.