التغني بالقرآن
التغني بالقرآن
بقلم د/ محمد محمود حوا
من المعلوم بداهة أن القصد في قراءة القرآن التعبد والتأثر والتدبر لا الترفيه والطرب والعبث، ولذلك كان للقرآن أثر عظيم في نفوس السامعين إذ يقول الله تبارك وتعالى: ] وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[ [المائدة:83].
أسباب التأثر بالقرآن الكريم:
والتأثر بالقرآن يأتي من أمور عدة:
1- إيمان القارئ والسامع ويقينه بأن هذا كلام الله له من المكانة ما ليس لغيره من الكلام، وأن ما فيه حق، وأن الإنصات إليه والتدبر له والتأثر فيه عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى.
2- جمال صوت القارئ، وهو أول ما تنتبه إليه وتتأثر به الأسماع، وأثره ثابت في السنة النبوية، فقد مر النبي r على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل وكان له صوت طيب جدا فوقف واستمع لقراءته وقال "لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود"([1]) قال يا رسول الله "لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا"([2]) وقال أبو عثمان النهدي ما سمعت صوت صنج ولا بربط ([3]) ولا مزمار مثل صوت أبي موسى t ومع هذا قال r "لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود"([4]) والمزمار : هو الآلة التي يزمّر بها.
3- الأداء الحسن: والمقصود منه أسلوب القراءة، بحيث تكون قراءة معبرة عن معاني ما يقرأ القارئ، فيرفع الصوت عند النفي ويستفهم عند الاستفهام ويتوسل عند الدعاء ونحو ذلك. وهذا يدركه ويعرفه بعض الناس دون بعض.
4- قواعد التجويد: وهي وإن كان لها أثر كبير في تجميل التلاوة وتحليتها إلا أنها تخفى على كثير من الناس، ولذلك نجد عامة الناس يثنون على قارئ حسن الصوت يُطرِّب وينغم وليس لديه من التجويد شيء، فإذا سمعه من يعرف التجويد عرف مستواه وكشف زيف دعواه في القراءة.
وحتى يحسن القارئ التغني بالقرآن فعليه أن يتعلم التفسير والبلاغة وأساليب الإلقاء والخطابة حتى يؤدي المعنى القرآني كما ينبغي، ويكون أداؤه للقراءة معبراً عن معاني القرآن، مما تعطي النص القرآني شيئاً من أبعاده المعنوية وخصائصه التأثيرية التي مهما بلغ القارئ من القدرة على التأثير في السامعين لن يصل إلا إلى جزء يسير منها بقدر ما يفتح الله عليه.
وقد أجمع العلماء رضي الله عنهم من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار أئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن وأقوالهم وأفعالهم مشهورة نهاية الشهرة.
قال النووي: (اعلم أن جماعات من السلف كانوا يطلبون من أصحاب القراءة بالأصوات الحسنة أن يقرؤوا وهم يستمعون وهذا متفق على استحبابه وهو عادة الأخيار والمتعبدين وعباد الله الصالحين وهى سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقد صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال لي رسول الله r: اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية: ] (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) [ (النساء : 41 )قال: حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان ([5]))([6]).
وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - ، قَالَ : سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : (( مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ )) ([7]). وفي رواية: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن)([8]) .
قال الطبري: إن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه وطرب به ([9]).
ومَعْنَى (( أَذِنَ الله )) : أي اسْتَمَعَ ، وَهُوَ إشَارَةٌ إِلَى الرِّضَا والقَبولِ.
وعن البَراءِ بنِ عازِبٍ رضي اللهُ عنهما ، قَالَ : سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ، فَمَا سَمِعْتُ أحَداً أحْسَنَ صَوْتاً مِنْهُ([10]).
وعن أَبي لُبَابَةَ بشير بن عبد المنذر - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ:(( مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا ))([11]).
معنى (( يَتَغَنَّى )) : يُحَسِّنُ صَوْتَهُ بِالقُرْآنِ .
وكان عمر بن الخطاب t يقول لأبي موسى t: ذكرنا ربنا. فيقرأ أبو موسى ويتلاحن وقال عمر t مرة من استطاع أن يغني بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل.
وكان عقبة بن عامر t من أحسن الناس صوتا بالقرآن فقال له عمر t أعرض علي سورة كذا فقرأ عليه فبكى عمر وقال ما كنت أظن أنّها نزلت([12]).
قال النووي: (ويستحب تحسين الصوت بالقراءة وتزيينها ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط ، فإن أفرط حتى زاد حرفا أو أخفى حرفا ، فهو حرام)([13]).
خلاصة في حكم قراءة القرآن بالألحان
وأما القراءة بالألحان ، فالذي يترجح – والله أعلم – (هو جواز القراءة بالمقامات، مع الأخذ في ذلك بمبدأ التوسط بلا إفراط ولا تفريط، مع الالتزام الكامل بأحكام التجويد، وعدم الخروج بالقراءة إلى تمطيط الحروف أو بترها أو عدم إعطاء كل حرف حقه. أو قراءة القرآن بالترعيد والتطريب على طريقة أهل الغناء والطرب مما يفقد القرآن جلاله وجماله، ويجعله كالأغاني، إذ الواجب تنْزيه كلام الله تعالى عن كل ذلك.
وقارئ القرآن إذا أراد أن يقلد أهل الغناء في غنائهم وفق مقامات الغناء فإنه لا محالة مفرط بقواعد التجويد، خارج بالقراءة القرآنية عن قرآنيتها فيسيء بذلك إلى المعنى واللفظ القرآني وهو يحسب أنه يحسن صنعا)([14]).
([1]) أخرجه البخاري رقم (4761) ومسلم رقم(793).
([2]) سنن البيهقي الكبرى 3/12.
([3]) الصنج: قطع نحاسية تكون فـي الدُّفُوف ونـحوه. البربط : العود أو آلة تشبهه.
([4]) تفسير ابن كثير ج3/ص188.
([5]) رواه البخاري ومسلم
([6]) التبيان في آداب حملة القرآن ( ص 114).
([7]) أخرجه: البخاري 9/193 ( 7544 ) ، ومسلم 2/192 ( 792 ) ( 233 ) .
([8]) وعند مسلم (792) بلفظ: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن).
([9]) عمدة القاري ج20/41.
([10]) أخرجه : البخاري 9/194 ( 7546 ) ، ومسلم 2/41 ( 464 ) ( 177 ) .
([11]) أخرجه : أبو داود ( 1471 ) .وإسناده جيد .
([12]) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري ج20/41.
([13]) الأذكار ( ص 108).
([14]) الشرح العصري على مقدمة ابن الجزري ص170، د. محمد حوا.