الوقف والابتداء: لماذا؟

د محمد محمود حوا

يتساهل كثير من الحفاظ والقراء في معرفة الوقف والابتداء والعناية به، وهو علم جليل يحتاجه كل من يتعامل مع القرآن قارئاً أو مستمعا أو مستهديا به متدبراً له، باحثا عن معانيه ومراد الله تعالى فيه، ليكون على بينة من كلام ربه ويفهمه كما أراد الله سبحانه. فهو علم مهم جداً، وقد تأملت في الدواعي التي توجب على القارئ والمقرئ تعلمه والعناية به فوجدتها تتجلى في جوانب كثيرة منها:

  1. الاستجابة لأمر الله تعالى: فالله سبحانه أمر النبي r بترتيل القرآن فقال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}[المزمل:4] ، والترتيل كما ورد تفسيره عن علي t : " الترتيل معرفة الوقوف وتجويد الحروف"[1]، والأمر للنبي r أمر لأمته ما لم يرد مخصص. قال ابن الجزري: " ففي كلام علي t دليل على وجوب تعلمه ومعرفته"[2].
  2. تحقيق واجب التدبر والفهم: بين الله سبحانه وتعالى لنا الغاية من تنزيل القرآن الكريم فقال U: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]. وهذا التدبر الواجب لا يتحقق بدون فهم للقرآن الكريم بشكل عام، وهذا الفهم العام لا يتم ولا يكتمل بدون معرفة مواضع الوقف الصحيح التي من خلالها تصل المعاني الصحيحة للقارئ والسامع والمتدبر، قال القسطلاني: "ولا مرية أنّ بمعرفتهما تظهر معاني التّنزيل، وتعرف مقاصده، وتستعد القوة المفكرة للغوص في بحر معانيه، على درر فوائده، وقد قال الهذلي ممّا رأيته في (كامله):" الوقف حليه التلاوة، وزينة القارئ، وبلاغ التّالي، وفهم للمستمع، وفخر للعالم، وبه يعرف الفرق بين المعنيين المختلفين، و القصبتين المتنافيتين، والحكمين المتغايرين، وقال أبو حاتم: "من لم يعرف علم الوقف لم يعلم القرآن"، انتهى"[3].

قال أبو جعفر النحاس: "فقد صار في معرفة الوقف والائتناف والتفريق بين المعاني، فينبغي لقارئ القرآن إذا قرأ أن يفهم ما يقرؤه ويشغل قلبه به ويتفقد القطع والائتناف ويحرص على أن يفهم المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وقفه عند كلام مستقر أو شبيه به وأن يكون ابتداؤه حسنًا"[4].

  1. تلبية الحاجة البشرية: قال أبو جعفر النحاس: "وهو علم يحتاج إليه جميع المسلمين، لأنهم لا بد لهم من قراءة القرآن ليقرؤوه على اللغة التي أنزل الله جل وعز كتابه بها وفضلها ومدحها فقال جل ثناؤه { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [الشعراء:195]، وقال جل وعز { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن 1-4] ، فمن البيان تفصيل الحروف والوقف على ما قد تم والابتداء بما يحسن الابتداء به"[5]، وقارئ القرآن لا يمكنه مواصلة القراءة دون تنفس بين الحين والآخر، وبالتالي يلزمه التوقف لأجل أخذ النفس، ولا يمكن للقارئ التنفس بين الكلمتين وصلا، كما لا يمكنه التنفس في وسط الكلمات، وبالتالي عليه أن يختار موضعا للوقف لا يتنافى مع مراد المتكلم الذي يقرأ كلامه، وفي ذلك يقول ابن الجزري رحمه الله: " لما لم يمكن للقارئ أن يقرأ السورة أو القصة في نفس واحد ولم يجر التنفس بين كلمتين حالة الوصل بل ذلك كالتنفس في أثناء الكلمة، وجب حينئذٍ اختيار وقف للتنفس والاستراحة، وتعين ارتضاء ابتداء بعد التنفس والاستراحة، وتحتم أن لا يكون ذلك مما يخل بالمعنى ولا يخل بالفهم إذ بذلك يظهر الإعجاز ويحصل القصد، ولذلك حض الأئمة على تعلمه ومعرفته"[6].
  2. الأمانة في الأداء: فالقارئ مؤتمن على إيصال اللفظ كما أراده المتكلم سبحانه، وأي إخلال في ذلك إخلال بالأمانة الواجب أداؤها، وهذا لا يتحقق بغير معرفة الوقف والابتداء، فلو قال قائل: بأن الله يقول: (لا تقربوا الصلاة) لكان كاذبا ولو أن هذا اللفظ ورد في القرآن، لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء 43]، فالأمانة في النقل تقتضي نقل الكلام كاملا، وقد يصل هذا الإخلال بصاحبه إذا أصرّ عليه وتعمده إلى الكذب على الله ورسوله بإيصال ما لا يريده الحق سبحانه في كلامه، وقد توعد الله ورسوله من يفتري الكذب على الله ورسوله، قال تعالى: {انظُرْكَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا} [النساء:50]، وقال النبي r يَقُولُ : "إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"[7]. وفي حديث الأحرف السبعة يقول النبي r: "أَتَانِي جِبْرِيلُ ، وَمِيكَائِيلُ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ : اسْتَزِدْهُ ، قَالَ : اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ، كُلِّهَا شَافٍ كَافٍ ، مَا لَمْ تُخْتَمْ آيَةُ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ ، أَوْ آيَةُ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ"[8]. قال أبو جعفر النحاس: "فهذا تعليم التمام توقيفًا من رسول الله r بأنه ينبغي أن يقطع على الآية التي فيها ذكر الجنة والثواب ويفصل ما بعدها إن كان بعدها ذكر النار أو العقاب نحو {يدخل من يشاء في رحمته} ولا ينبغي (أن) يقول {والظالمين} لأنه منقطع عما قبله لأنه منصوب بإضمار فعل أي ويعذب الظالمين أو وعذب الظالمين"[9].
  3. إجماع الصحابة y على العناية به: فعن ابن عمر t قال: "لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ r فَيَتَعَلَّمُ حَلاَلَهَا وَحَرَامَهَا ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ ، ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالاً يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلاَ زَاجِرُهُ ، وَلاَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ"[10]. قال ابن الجزري وغيره: "وفي كلام ابن عمر t برهان على أن تعلمه إجماع من الصحابة y، وصح بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف الصالح كأبي جعفر يزيد بن القعقاع إمام أهل المدينة الذي هو من أعيان التابعين، وصاحبه الإمام نافع بن أبي نعيم وأبي عمرو ابن العلاء ويعقوب الحضرمي وعاصم بن أبي النجود وغيرهم من الأئمة وكلامهم في ذلك معروف، ونصوصهم عليه مشهورة في الكتب"[11].
  4. تأثيره في استنباط أحكام القرآن: فاستنباط الأحكام من القرآن لا يكون بغير معرفة الوقف المُعين على الفهم الصحيح، ففي قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللـهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]، فلو وقف القارئ على (ولأبويه) لكان حكم الأبوين حكم البنت الواحدة ، أي لهم النصف، بينما في الوصل يتبين أن لكل من الأبوين السدس إن كان للمتوفى ولد.
  5. ضرورته في إعراب القرآن: ومن خلال علم الإعراب يعرف الفاعل من المفعول، والمبتدأ من الخبر، وغير ذلك من أبواب النحو، وقد كان يطلق الإعراب بمعنى التفسير ومعرفة المعاني، ثم صار عِلماً خاصا، قال ابن عطية: "إعراب القرآن أصل في الشريعة؛ لأن بذلك تقوم معانيه التي هي الشرع"[12]، وقال المقرئ أَبُو مُحَمَّد مكي بن أبي طَالب الْقَيْسِي: "فَإِنِّي رَأَيْت أفضل علم صرفت إِلَيْهِ الهمم وتعبت فِيهِ الخواطر وسارع إِلَيْهِ ذَوُو الْعُقُول علم كتاب الله تَعَالَى ذكره؛ إِذْ هُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَالدّين الْمُبين وَالْحَبل المتين وَالْحق الْمُنِير، وَرَأَيْت من أعظم مَا يجب على الطَّالِب لعلوم الْقُرْآن الرَّاغِب فِي تجويد أَلْفَاظه وَفهم مَعَانِيه وَمَعْرِفَة قراءاته ولغاته. وَأفضل مَا القارئ إِلَيْهِ مُحْتَاج معرفَة إعرابه، وَالْوُقُوف على تصرف حركاته وسواكنه، يكون بذلك سالما من اللّحن فِيهِ، مستعينا على إحْكَام اللَّفْظ بِهِ، مطلعا على الْمعَانِي الَّتِي قد تخْتَلف باخْتلَاف الحركات، متفهما لما أَرَادَ الله بِهِ من عباده، إِذْ بِمَعْرِِفَة حقائق الْإِعْرَاب تعرف أَكثر الْمعَانِي وينجلي الْإِشْكَال فتظهر الْفَوَائِد وَيفهم الْخطاب وَتَصِح معرفَة حَقِيقَة المُرَاد"[13].

وقال ابن الأنباري: "ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه معرفة الوقف والابتداء فيه، فينبغي للقارئ أن يعرف الوقف التام والوقف الكافي الذي ليس بتام والوقف القبيح الذي ليس بتام ولا كافٍ"[14].

وقال السيوطي"وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا النَّوْعِ: مَعْرِفَةُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْإِعْرَابَ يُمَيِّزُ الْمَعَانِيَ، وَيُوقِفُ عَلَى أَغْرَاضِ الْمُتَكَلِّمِينَ"[15].

  1. اشتراطه في الإجازة القرآنية: لما كانت الإجازة القرآنية شهادة بأهلية المجاز في قراءة القرآن الكريم كما تلقاه شيخه بسنده عن النبي r فقد اشترط كثير من أهل العلم معرفة الوقف في الإجازة القرآنية، قال أبو عمرو الداني: "معرفة ما يتم الوقف عليه، وما يحسُن، وما يقْبُح، من أَجَلّ أدوات القراء المتحققين بالقراءة ومعرفة ذلك مما لا بد منه، فينبغي لهم أن يُعمِلوا أنفسهم في طلبه والسؤال عنه، حتى يقفوا عليه، ويستعملوه في تلاوتهم"[16].

وقال ابن الجزري : "ومن ثم اشترط كثير من أئمة الخلف على المجيز أن لا يجيز أحداً إلا بعد معرفته الوقف والابتداء. وكان أئمتنا يوقفوننا عند كل حرف ويشيرون إلينا فيه بالأصابع سنة أخذوها كذلك عن شيوخهم الأولين رحمة الله عليهم أجمعين "[17].

  1. النصيحة لكتاب الله تعالى وللمؤمنين، فعن تميم الداري t قال r: « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » قُلْنَا لِمَنْ قَالَ « للـه وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ »[18]. ونص أبو جعفر النحاس على أن من واجب المقرئ أن يوجه طلابه لمواضع الوقف الصحيح، وأن ذلك من النصيحة الواجبة، فقال: وقد تأول بعض العلماء حديث جرير : "بَايَعْتُ النَّبِيَّ r عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَلَقَّنَنِي فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"[19]، " أنه ينبغي أن ينصح من علم القرآن، فيقف الذي يعلمه على ما يحتاج إليه من القطع، وما ينبغي أن يستأنف به"[20].
 

[1] النشر في القراءات العشر (1 / 254)

[2] النشر في القراءات العشر (1 / 254)

[3] القسطلاني، لطائف الإشارات لفنون القراءات، (417).

[4] ينظر: النحاس، القطع والائتناف (1/21).

[5] ينظر: النحاس، القطع والائتناف (1/2).

[6]  ابن الجزري، النشر في القراءات العشر (1 / 254).

[7]  صحيح البخاري، رقم (1291).

[8] مسند أحمد بن حنبل ، رقم (20441)، قال الأرناؤوط: صحيح لغيره.

[9]  النحاس، القطع والائتناف (1/13).

[10] المستدرك على الصحيحين للحاكم، رقم (101) وقال الذهبي: في التلخيص : على شرطهما ولا علة له. السنن الكبرى للبيهقي، رقم (5496).

[11]  ابن الجزري، النشر في القراءات العشر (1 / 254). وذكر نحوه ابن النحاس في القطع والائتناف (1/12).

[12] ينظر: تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/40).

[13] ينظر: مكي بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن (1/ 63)

[14] ابن الأنباري، إيضاح الوقف والابتداء (1/108).

[15] الإتقان في علوم القرآن (1 / 528)

[16] أبو عمرو الداني، شرح قصيدة أبي مزاحم، نقل ذلك عنه د غانم قدروي الحمد في شرح المقدمة الجزرية (533).

[17] ابن الجزري، النشر في القراءات العشر (1 / 254).

[18]  صحيح مسلم، رقم (205).

[19] صحيح البخاري، رقم (7204).

[20] ينظر: النحاس، القطع والائتناف (1/15).