عظمة القرآن في القرآن -11- الفرقان الفاصل بين الحق والباطل

د. محمد محمود حوا

وصف الـله كتابه الكريم القرآن الكريم بأنه {الْفُرْقَان} وذلك في عدد من الآيات القرآنية، فقال تعالى:

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الـله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللـَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4)} [آل عمران3-4]

وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1].

وتحدث عن نزول القرآن الكريم فقال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} [الإسراء:106].

قال الأصفهاني: (والفُرْقَانُ: كلام الـله تعالى، لفرقه بين الحقّ والباطل في الاعتقاد، والصّدق والكذب في المقال، والصالح والطّالح في الأعمال)[1].

وإذا رجعنا إلى معاني كلمة (فرقان) في معاجم اللغة نجد لها عدداً من المعاني منها[2]:

  • الفرقان يفرق بين الحق والباطل.
  •  ويفرق بين الحلال والحرام.
  • وهو الحجة والبرهان.
  • وهو الصُّبح أو السحَر.
  • وهو الصبي في مقتبل العمر.
  • وفَرَقَ بين الجماعة أي يفرق بين المؤمنين والكافرين بتصديقه وتكذيبه.
  • والفرقان مصدر من (فَرَق) بين الشيئين، إذا فصل بينهما، وهو الذي نزل مُفرَّقاً أي منجّماً.

وفيما يلي بيان ذلك بالتفصيل:

  • فالقرآن الكريم يفرق بين الحق والباطل، فما جاء في القرآن الكريم من عند الـله حق ثابت، قامت به حجة الـله على خلقه، وليس بعد الحق الذي جاء به القرآن إلا الضلال المبين، والتفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهداية، لما فيها من إقامة البراهين ودحض الشبهات.

قال ابن عاشور: (ووجه تسميته الفرقان أنه امتاز عن بقية الكتب السماوية بكثرة ما فيه من بيان التفرقة بين الحق والباطل، فإن القرآن يعضد هديه بالدلائل والأمثال ونحوها، وحسبك ما اشتمل عليه من بيان التوحيد وصفات الـله مما لا تجد مثله في التوراة والإنجيل، كقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وأذكر لك مثالا يكون تبصرة لك في معنى كون القرآن فرقانا، وذلك أنه حكى صفة أصحاب محمد صلى الـله عليه وسلم الواردة في التوراة والإنجيل بقوله {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بينهم} [الفتح: 29] فلما وصفهم القرآن قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] فجمع في هاته الجملة جميع أوصاف الكمال. وأما إن افتقدت ناحية آيات أحكامه فإنك تجدها مبرأة من اللبس وبعيدة عن تطرق الشبهة)[3].

  • وهو يفرق بين الحلال والحرام، فما أحله الـله تعالى في كتابه أو على لسان نبيه صلى الـله عليه وسلم فهو حلال، وما حرمه فهو حرام مقطوع بحرمته، ولا يقبل من أحد أن يقول عن شيء مما نزل تحريمه في القرآن الكريم بأنه حلال؛ لأن ذلك خروج عن دين الـله تعالى وتكذيب لكتاب الـله.
  • وهو الحجة والبرهان، فهو حجة الـله على الخلق إلى قيام الساعة، فيه الأدلة على وجود الـله ووحدانيته وأنه وحده سبحانه المستحق للعبادة لا شريك الـله، وغير ذلك من أدلة أركان الإيمان والإسلام.  

فهو البرهان والدليل على نبوة النبي محمد صلى الـله عليه وسلم، إذ هو المعجزة الدائمة التي جعلها الـله تعالى للنبي محمد صلى الـله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الـله عنه قال: قال رسول الـله صلى الـله عليه وسلم: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى الـله إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[4].

  • وإذا كان من معاني الفرقان: الصبح، الذي بطلوعه ينقشع ظلام الليل، فالقرآن هو النور الذي جاء ليمحو الظلام، وبه أخرج الـله المؤمنين من الظلمات إلى النور {قَدْ جَاءكُم مِّنَ الـله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ الـله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15-16).
  • والعرب يسمون الصبيان في مقتبل العمر فرقاناً، ويشهدونهم على الوقائع؛ لأنهم يعيشون ويشهدون على الحوادث، والقرآن الكريم كما يقول صاحب الظلال: (فيه من تفرقة بين نهج في الحياة ونهج، وبين عهد للبشرية وعهد. فالقرآن يرسم منهجا واضحا للحياة كلها في صورتها المستقرة في الضمير، وصورتها الممثلة في الواقع. منهجا لا يختلط بأي منهج آخر مما عرفته البشرية قبله. ويمثل عهدا جديدا للبشرية في مشاعرها وفي واقعها لا يختلط كذلك بكل ما كان قبله. فهو فرقان بهذا المعنى الواسع الكبير. فرقان ينتهي به عهد الطفولة ويبدأ به عهد الرشد. وينتهي به عهد الخوارق المادية ويبدأ به عهد المعجزات العقلية)[5].
  • والقرآن يفرق بين المؤمنين الذين يهتدون بالقرآن ويتبعون أمره، والكافرين الذين لا يهتدون بالقرآن ويعرضون عنه، كما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الزمر: 41).
  • ويسمى القرآن بالفرقان؛ لأنه نزل منجماً، فصلاً بعد فصل، وسورة بعد سورة، كما أخبر عن ذلك سبحانه وتعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء: 106).

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1)، (...والقرآن نزل مُنَجَّماً مُفَرَّقاً مُفَصَّلا آيات بعد آيات، وأحكاما بعد أحكام، وسُوراً بعد سُوَر، وهذا أشد وأبلغ، وأشد اعتناءً بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [ الفرقان: 32، 33]. ولهذا سماه هاهنا الفرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام)[6].
وقال ابن عاشور: (ومعنى {فَرَقْنَاهُ} جعلناه فرقا، أي أنزلناه منجما مفرقا... ويطلق الفَرَق على البيان؛ لأن البيان يشبه تفريق الأشياء المختلطة، فيكون {فَرَقْنَاهُ} محتملا معنى بينَّاه وفصلناه، وإذ قد كان قوله: {وَقُرْآناً} حالا من ضمير {فَرَقْنَاهُ} آل المعنى إلى: أنا فرقناه وأقرأناه. وقد علل بقوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}. فهما علتان: أن يقرأ على الناس وتلك علة لجعله قرآنا، وأن يقرأ على مكث، أي مهل وبطء وهي علة لتفريقه. والحكمة في ذلك أن تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين)[7].

وإيماننا بأن القرآن الكريم "فرقان" يقتضي منا واجبات متعددة منها:

  • أن نكون على درجة من التقوى ليتحقق لنا وعد الـله تعالى، حيث يقول سبحانه: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الـله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]. قال ابن عباس وغيره: فرقاناً: مخرجا ونجاة في الدنيا والآخرة. وفي رواية عن ابن عباس: {فُرْقَانًا}: نصرا. وقال محمد بن إسحاق: {فُرْقَانًا} أي: فصلا بين الحق والباطل. وهذا التفسير أعم مما تقدم وقد يستلزم ذلك كله؛ فإن من اتقى الـله بفعل أوامره وترك زواجره، وفق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة، وتكفير ذنوبه -وهو محوها -وغفرها: سترها عن الناس -سببًا لنيل ثواب الـله الجزيل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الـله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28][8].
  • من حِكَم نزول القرآن منجماً تثبيت النبي صلى الـله عليه وسلم والمؤمنين، فالله تعالى يثبت المؤمنين في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الـله على هوى النفس ومراداتها، ولا يتحقق ذلك إلا بالاهتداء بالقرآن الكريم والاعتصام به والإيمان بما جاء فيه من وعد ووعيد.
  • كما يقتضي منا أن نهتدي بالقرآن الكريم بالتدرج في تعليم الناس هدي القرآن، {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء: 106)، وهي الطريقة التي كان رسول الـله صلى الـله عليه وسلم يعلم بها أصحابه، كما قال ابن مسعود رضي الـله عنه: كنا إذا تعلمنا من النبي صلى الـله عليه وسلم عشر آيات من القرآن لم نتعلم من العشر الذي نزلت بعدها حتى نعلم ما فيه. قيل لشريك [أحد رواة الحديث] من العمل؟ قال: نعم[9].
  • أن نلجأ إلى القرآن الكريم نلتمس منه الهداية عندما تلتبس علينا المواقف والآراء والأقوال والأشخاص والهيئات، لنعرف به الحق من الباطل ونميز الخير من الشر، ونعرف أهل الحق من أهل الضلال والنفاق والزيغ والفساد.

جعلنا الـله من أهل الفرقان، وجعل لنا فرقاناً نميز به بين الحق والباطل والهدى والضلال، إنه سميع مجيب

 

 

[1]  المفردات في غريب القرآن، ص: 634

[2]  ينظر: لسان العرب (10 / 299)، تاج العروس من جواهر القاموس (26 / 291).

[3]  التحرير والتنوير (1 / 71).

[4]  صحيح البخاري (4981). صحيح مسلم (402).

[5]  في ظلال القرآن (5 / 2547).

[6]  تفسير ابن كثير (6 / 92).

[7]  التحرير والتنوير - (14 / 181).

[8]  ينظر: تفسير ابن كثير (4 / 43).

[9]  المستدرك على الصحيحين (2047).