عظمة القرآن في القرآن/ 10/ الصدْق المصدِّق

د. محمد محمود حوا

لقد أرسل الله الرسل بدين التوحيد، وهو دين الإسلام، وهو دين أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67)، ودعا يوسف عليه السلام ربه أن يتوفاه على الإسلام، فقال: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101).

ولما بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام وأنزل عليه القرآن الكريم، وصف القرآن الكريم بصفة الصِّدق فقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} (الزمر: 32) وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (الزمر: 33).

كما وصفه بأنه مصدِّق: فقال تعالى: {وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة: 41)

وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة: 89)

وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ...} (المائدة: 48).

أبدأ ببيان وصف (الصدْق) ودلالاته، ومن ثم أنتقل إلى وصف (مصَدِّق).

فما معنى الصدق في اللغة؟

قال ابن فارس: (الصاد والدال والقاف أصلٌ يدلُّ على قوّةٍ في الشيء قولاً وغيرَه. من ذلك الصِّدْق: خلاف الكَذِبَ، سمِّيَ لقوّته في نفسه، ولأنَّ الكذِبَ لا قُوَّة له، هو باطلٌ)[1].

الصِّدقُ بالكَسْر والفَتح: ضدُّ الكَذِب والكسر أفصح،.. وكُلُّ ما نُسِبَ الى الصّلاح والخَيْر أُضيف إلى الصِّدْق. فقيل: هو رَجُلُ صِدْقٍ، وصَديقُ صِدْق، مُضافَيْن، ومَعْناه: نِعْمَ الرّجُلُ هو، وكذا امرأةُ صِدْقٍ،... الصَّدْقُ الجامِعُ للأوْصافِ المَحْمودَة، قالَ الخَليلُ: الصَّدْقُ: الكامِلُ من كُلِّ شيءٍ[2]

والقرآن صِدْق في أخباره، فلا تجد فيها كذبا. وصِدق في ذاته: فهو خير كله، وحق كله، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42)، ويدعو إلى كل خير، وصِدْق في تشريعه وهداه، فهو كامل لا نقص فيه.

وحول معنى وصف القرآن الكريم بأنه (صدْق) فقد نقل ابن جرير الطبري عن عدد من المفسرين بأن (الذي جاء بالصدق جبريل، والصدق: القرآن الذي جاء به من عند الله)[3].

وقال: (الصدق هو القرآن، وشهادة أن لا إله إلا الله، والمصدِّق به: المؤمنون بالقرآن، من جميع خلق الله كائنا من كان من نبيّ الله وأتباعه) [4].

وكما وصف الله القرآن بأنه صِدْق، فقد وصفه بأنه (مُصّدِّق) وقد ورد ذلك في 10 مواضع من القرآن الكريم.

ومِصْداقُ الشّيءِ: ما يُصَدِّقُه. ومنه الحَديثُ: إن لكُلِّ قوْلِ مِصْداقاً ولكُلِّ حقٍّ حَقيقَة [5].

والمصدِّق هو الذي يصدِّق، وصدّقه تصْديقاً: قبِل قولَه، وهو ضِدّ كذّبه، وهو قوله تعالى: {وصدّقَ بهِ} قال الراغب: أي حقّق ما أوْرَدَه قولاً بما تحرّاه فعلاً [6].

وقد قرن الله وصف القرآن بأنه مصدق بأنه حق أيضاً، والحق هو الصدق.

قال ابن جرير: ("مُصَدّقًا لما بين يديه"، يعني بذلك القرآن، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رُسل الله من عنده؛ لأن منزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير)[7].

وقال في تفسير قوله تعالى: { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره: أنزلنا إليك، يا محمد،"الكتاب"، وهو القرآن الذى أنزله عليه، ويعني بقوله: "بالحق"، بالصدق ولا كذب فيه، ولا شك أنه من عند الله "مصدقًا لما بين يديه من الكتاب"، يقول: أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التي أنزلها إلى أنبيائه "ومهيمنًا عليه"، يقول: أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك، يا محمد، مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظا لها... وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله[8].

قال السعدي: (هو أجل الكتب وأعظمها المشتمل على الحق في إخباره وأوامره ونواهيه، فما أخبر به صدق، وما حكم به فهو العدل، وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابه { مصدقا لما بين يديه } من الكتب السابقة، فهو المزكي لها، فما شهد له فهو المقبول، وما رده فهو المردود، وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق عليها المرسلون، وهي شاهدة له بالصدق، فأهل الكتاب لا يمكنهم التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به، فإن كفرهم به ينقض إيمانهم بكتبهم)[9].

{مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي: موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا، فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب، غير مخالف لها، فلا مانع لكم من الإيمان به؛ لأنه جاء بما جاءت به المرسلون، فأنتم أولى من آمن به وصدق به، لكونكم أهل الكتب والعلم.

وأيضا فإن في قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به، عاد ذلك عليكم، بتكذيب ما معكم؛ لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم. وأيضا، فإن في الكتب التي بأيدكم، صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به، فإن لم تؤمنوا به، كذبتم ببعض ما أنزل إليكم، ومن كذب ببعض ما أنزل إليه، فقد كذب بجميعه، كما أن من كفر برسول، فقد كذب الرسل جميعهم[10].

قال ابن عاشور: (فالإيمان بالقرآن لا ينافي تمسكهم القديم بدينهم ولا ما سبق من أخذ رسلهم عليهم العهد باتباعه. ومما يشمله تصديق القرآن لما معهم: أن الصفات التي اشتمل عليها القرآن ودين الإسلام والجائي به موافقة لما بشرت به كتبهم، فيكون وروده معجزة لأنبيائهم، وتصديقا آخر لدينهم، ... فيلزم تأويل التصديق بالتحقيق؛ لأن التصديق في إعلام المخبَر - بفتح الباء- بأن خبر المخبِر مطابق للواقع إما بقوله صدقت أو صدق فلان..)[11].

وقال في الظلال في تفسير قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ} (فما الإسلام الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم إلا الدين الواحد الخالد. جاء به في صورته الأخيرة وهو امتداد لرسالة اللّه، ولعهد اللّه منذ البشرية الأولى، يضم جناحيه على ما مضى، ويأخذ بيد البشرية فيما سيأتي ويوحد بين «العهد القديم» وهو [التوراة] و«والعهد الجديد» وهو [الإنجيل] ويضيف ما أراده اللّه من الخير والصلاح للبشرية في مستقبلها الطويل ويجمع بذلك بين البشر كلهم إخوة متعارفين يلتقون على عهد اللّـه، ودين اللّـه لا يتفرقون شيعا وأحزابا، وأقواما وأجناسا ولكن يلتقون عبادا للّـه، مستمسكين جميعا بعهده الذي لا يتبدل منذ فجر الحياة)[12].

وكون القرآن (صِدق) و(مصدِّق) فهذا يقتضي منا الاتصاف بالصدق والتصديق..

الصدق في أوسع معانيه كما فسره علماء اللغة[13]: القوة في الذات، والصلاح والخير والتخلق بمكارم الأخلاق التي توصل للكمال بقدر الطاقة البشرية، وذلك من خلال مطابقة القول للعمل كما هي صفة الصديقين؛ لأن الصديق هو من يُصَدِّقُ قولَه بالعَمَل، ومَنْ صَدَق بقَوْله واعتِقاده، وحقّق صِدقَه بفعْلِه[14]، ولا يكون ذلك إلا باتباع ما جاء في القرآن الكريم، ولا يكون إلا بمطابقة أقوالنا وأفعالنا وعقائدنا لما جاء في القرآن، وهذا هو الطريق الموصل إلى التقوى الموصلة للجنة قال تعالى {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} (الزمر 33-34). جعلنا الله وإياكم منهم. اللهم آمين.

 

 

[1]  معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3 / 339).

[2]  ينظر: تاج العروس من جواهر القاموس (26 / 6).

[3]  تفسير الطبري (21 / 290). وانظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور (24 / 86).

[4]  تفسير الطبري (21 / 291).

[5]  تاج العروس من جواهر القاموس (26 / 11). والحديث أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1 / 242) وهو ضعيف.

 [6]تاج العروس من جواهر القاموس - (26 / 15).

[7]  جامع البيان (تفسير الطبري) (6 / 160).

[8]  جامع البيان (تفسير الطبري) (10 / 377).

[9]  تفسير السعدي (1 / 121).

[10]  تفسير السعدي (1 / 50). وقريب من هذا ذكره الطبري في تفسيره (1 / 560).

[11]  التحرير والتنوير (1 / 444).

[12]  في ظلال القرآن (1 / 67).

[13]  كما نقلته في مطلع  المقال عن معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3 / 339). تاج العروس من جواهر القاموس (26 / 6).

[14]  ينظر: لسان العرب (10/193). تاج العروس من جواهر القاموس (26 / 13).