عظمة القرآن في القرآن/ 8/ البيان الأفصح (الإعجاز البياني)

د. محمد محمود حوا

ذكرت في مقال سابق بعنوان المعجزة الخالدة أن الإعجاز البياني هو أعظم جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، وإليه ابتداءً ينصرف التحدي في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 23) وفي غيرها من الآيات التي تحدى الله بها الإنس والجن.

ولماذا كان الإعجاز البياني هو أعظم جوانب الإعجاز؟

لأن العرب كانوا وقت نزول القرآن في أرفع وأسمى مستوى من الفصاحة والبيان، فجاء القرآن وتحداهم بما يتقنونه ويجيدون فيه، ولما طالبهم بمثل القرآن، أراد مثله في البيان والفصاحة، ولهذا قال لهم: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(هود: 13) وكلمة مفتريات لها دلالة مهمة في التحدي والإعجاز، فهي تشير إلى أن المطلوب منهم عشر سور مثل سور القرآن في الفصاحة والبيان والأسلوب، وليس مثل سور القرآن في علومها وموضوعاتها وأخبارها.

لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وما أدراك ما عصر نزول القرآن، هو أزهى عصور البيان العربي وأرقى أدوار التهذيب اللغوي. وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها حتى أدركت هذه اللغة أشدها، وتم لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها؟! ما هذه الجموع المحشودة في الصحراء وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟ إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم وأجود صناعاتهم، وما هي إلا بضاعة الكلام وصناعة الشعر والخطابة، يتبارون في عرضها ونقدها واختيار أحسنها والمفاخرة بها ويتنافسون فيها أشد التنافس، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم[1].

وأول ما لفت نظر العرب في القرآن الكريم هو فصاحته وبلاغته، وجزالة ألفاظه.

فها هو أبو جهل يطلب من الوليد بن المغيرة أن يقول في رسول الله r قولا تعرف قريش منه أنه منكر لما جاء به رسول الله r وكاره له، فأجابه الوليد: وماذا أقول؟ فو الله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته [2].

ويحكي الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه قصة إسلامه فيقول: كنت رجلاً شاعراً سيداً في قومي، فقدمت مكة فمشيت إلى رجالات قريش فقالوا: يا طفيل، إنك امرؤ شاعر سيد مطاع في قومك وإنا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل فيصيبك ببعض حديثه، فإنما حديثه كالسحر فاحذره أن يُدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا وعلى قومنا، فإنه يفرق بين المرء وابنه وبين المرء وزوجه وبين المرء وأبيه، فوالله ما زالوا يحدثونني في شأنه وينهونني أن أسمع منه حتى قلت: والله لا أدخل المسجد إلا وأنا سادّ أذني. قال: فعمدت إلى أذني فحشوتهما كرسُفاً [الكرسف: القطن] ثم غدوت إلى المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً في المسجد. قال: فقمت منه قريباً وأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله. قال: فقلت في نفسي: والله إن هذا للعجز! والله إني امرؤ ثبت ما يخفى علي من الأمور حسنها ولا قبيحها. والله لأستمعنّ منه فإن كان أمره رشداً أخذت منه، وإن كان غير ذلك اجتنبته. فقال: فقلت بالكرسفة! فنزعتها من أذني فألقيتها ثم استمعت له فلم أسمع كلاماً قط أحسن من كلام يتكلم به. قال: قلت - في نفسي يا سبحان الله؟ ما سمعت كاليوم لفظاً أحسن منه ولا أجمل. قال: ثم انتظرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انصرف فاتبعته فدخلت معه بيته فقلت له: يا محمد إن قومك جاؤوني فقالوا كذا وكذا، فأخبرته بالذي قالوا، وقد أبى الله إلا أن أسمعني منك ما تقول وقد وقع في نفسي أنه حق فاعرِض علي دينك وما تأمر به وما تنهى عنه. قال: فعرض علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت[3].

وفي المحاورة التي حصلت بين النجاشي وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، طلب النجاشي من جعفر أن يقرأ عليه، فقرأ صدراً من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا كتبهم حين سمعوا ما تلا عليهم من القرآن.

وها هو لبيد بن ربيعة وهو من فحول شعراء العرب قال له عمر بن الخطاب يوماً: يا أبا عقيل، أنشدني شيئاً من شعرك. فقال: ما كنت لأقول شعراً بعد أن علمني الله البقرة وآل عمران[4].

هذا وأمثاله من المواقف غيض من فيض ونقطة في بحر إعجاز القرآن الكريم وبيانه، وما تزال عجائب الإعجاز لا تنقضي.

وكون القرآن الكريم معجزا ببيانه يقتضي منا أمورا كثيرة منها:

  • استثمار هذا الإعجاز والبيان في بناء الإيمان واليقين في نفوسنا ونفوس طلابنا وأبنائنا، كما قال تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ...} (المدثر: 31).
  • العناية الخاصة بلغة القرآن الكريم فنربي أبناءنا عليها ونعلمها لهم، حتى لا تنقطع الصلة بكتاب الله تعالى وتذوق فصاحته وبيانه، ولكي ندرك مع الأجيال الجديدة من أبنائنا بعض جوانب الإعجاز ونفهم بعض أسرار التعبير القرآني وفصاحته وبيانه.
  • العناية الفائقة بعلوم التفسير في فهم وتفسير معاني القرآن الكريم وفق قواعد علم التفسير وأصوله ومقتضيات علوم اللغة العربية حتى تستفيد الأجيال دوماً من كتاب الله تعالى ويكون لها مرجعاً في كل زمان ومكان، ويلحق بذلك النقطة التالية.
  • توسيع دلالة النص القرآني وتكثير فوائده ما أمكن وفق قواعد علم التفسير واللغة، ذلك أن بعض الكلمات القرآنية قد يكون لها أكثر من معنى، وبالتالي ينبغي أن يوسع المدلول بأخذ المعنى الكلي للّفظ القرآني وليس المعنى الجزئي. فإذا كان المعنى الكلي صحيحاً لا رد له وتشهد لصحته دلالة نصوص أخرى، فالأولى حمل النص على المعنى الكلي العام، ولا داعي لتخصيصه بواحد من المعاني الجزئية التي جاءت في التفاسير، إلا أن يكون السياق يقتضي التخصيص حتماً[5].
  • الاجتهاد في تدبر كتاب الله تعالى، والتلذذ بتلاوته وتدبره ومدارسته في الخلوات ومجالس الذكر التي تنزل عليها السكينة وتحفها الملائكة وتغشاها الرحمة.
  • الحذر الحذر من أدعياء الحداثة والقراءات الجديدة للقرآن الكريم ممن يفسرون القرآن بأهوائهم بلا زمام ولا خطام، ويلوون أعناق النصوص بحجة وصولهم إلى فهم جديد للقرآن مخالفين بآرائهم مقتضى كلام العرب وأساليبهم في الفصاحة والبيان، وما حالهم إلا كحال اليهود الذين وصفهم الله تعالى بقوله وصف الله تعالى: {...يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 75).
 

[1]  ينظر: د محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم 83.

[2]  ابن كثير، السيرة النبوية (1/ 499).

[3]   ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 229).

[4]   ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1 / 415).

[5]  ينظر: د عبد الرحمن حبنكة، قواعد التدبر الأمثل ص 26.