عظمة القرآن في القرآن -6- الحق المبين

د. محمد محمود حوا

وصف الله كتابه الكريم بأنه {الحق}، والحَقُّ نقيض الباطل ومنه قوله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81).

قال قتادة : "الْحَقُّ : الْقُرْآنُ[1].

"والحق هو ما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فأمره الله أن يقول ويعلن، قد جاء الحق الذي لا يقوم له شيء، وزهق الباطل أي: اضمحل وتلاشى، {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} أي: هذا وصف الباطل، ولكنه قد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله الحق فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك، ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته"[2].

وتكرر وصف القرآن بأنه {الحق} في عدد من الآيات، منها:

  • قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} (البقرة: 26).

قال قتادة: "{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَلاَمُ الرَّحْمَنِ وَأَنَّهُ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ"[3].

  • وقوله تعاله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 102).

قال السعدي: "وهو مشتمل على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه، فلا سبيل لأحد أن يقدح فيه قدحا صحيحا، لأنه إذا علم أنه الحق علم أن ما عارضه وناقضه باطل"[4].

  • وقوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (يونس: 94).

"{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ} يا محمد وهو خطاب لأمته كلها أي لكل إنسان {فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ} فإنك ستعلم منهم أن الله أرسل رسلا كثيرين، وأنزل عليهم وحيا يشبه الوحي الذي أنزل عليك، ومع كثرة التحريف فإن ما يدل على هذا القدر موجود، وهكذا بعد أن هدم الله كل حجة للكافرين والمرتابين، فتح منفذاً آخر يزول به الشك في أصل الإرسال وأصل الوحي، ثم قرر الله عزّ وجل أن المسألة أوضح من أن يشك فيها {لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} وهو حق قامت عليه من الأدلة ما لا يبقى شك فيه لعاقل، وإذ كان الأمر كذلك فقد صدر في هذا المقام نهيين:

الأول: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} أي الشاكِّين.

النهي الثاني: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} أيا كانت في الأرض أو في السماء أو في القرآن أو في المعجزات {فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ} بسبب التكذيب، وإذ توجه النهي لرسولنا عليه الصلاة والسلام- وهو أول المنفذين لأمر الله- فإنه قال: «لا أشك ولا أسأل»"، كما روى ذلك قتادة وابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري"[5].

وقال السعدي: "{لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ} أي: الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه ولهذا قال: {مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} كقوله تعالى: {كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ}  {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وحاصل هذا أن الله نهى عن شيئين: الشك في هذا القرآن والامتراء فيه.

وأشد من ذلك، التكذيب به، وهو آيات الله البينات التي لا تقبل التكذيب بوجه، ورتب على هذا الخسار، وهو عدم الربح أصلا وذلك بفوات الثواب في الدنيا والآخرة، وحصول العقاب في الدنيا والآخرة، والنهي عن الشيء أمر بضده، فيكون أمرًا بالتصديق التام بالقرآن، وطمأنينة القلب إليه، والإقبال عليه، علمًا وعملا.

فبذلك يكون العبد من الرابحين الذين أدركوا أجل المطالب، وأفضل الرغائب، وأتم المناقب، وانتفى عنهم الخسار"[6].

  • وقوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} (النمل: 79).

وقد بين الله لنبيه أن القرآن الذي أنزل عليه وثبت على تعاليمه حق فقال: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أي: "أنت على الحق المبين وإن خالفك مَنْ خالفك، مِمَّنْ كتبت عليه الشقاوة وحَقَّت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية"[7].

وقد وجه الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعتمد على ربه في جلب المصالح ودفع المضار وفي تبليغ الرسالة وإقامة الدين وجهاد الأعداء، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} الواضح والذي على الحق يدعو إليه، ويقوم بنصرته أحق من غيره بالتوكل فإنه يسعى في أمر مجزوم به معلوم صدقه لا شك فيه ولا مرية. وأيضا فهو حق في غاية البيان لا خفاء به ولا اشتباه، وإذا قمت بما حملت وتوكلت على الله في ذلك فلا يضرك ضلال من ضل وليس عليك هداهم فلهذا قال: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}.[8]

"أمره بالتوكل على الله، وقلة المبالاة بأعداء الدين، لإقامة وتبليغ رسالات الله، وعلل للأمر بالتوكل بأنه على الحق الأبلج، وهو الدين الواضح الذي لا يتعلق به شك، وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله وبنصرته"[9].

وإيماننا بأن القرآن الكريم "حق" يقتضي منا واجبات كثيرة منها:

- التصديق التام واليقين الكامل بالقرآن الكريم، واطمئنان القلب إليه وعدم الشك والامتراء فيه، بل الثبات والإقبال عليه، علمًا وعملا.

- عدم الخوف من أعداء الدين وشبهاتهم وأباطيلهم، بل الوقوف في وجوههم وكشف باطلهم وزيفهم بقدر الوسع والإمكان لأن الباطل لا ينتشر إلا إذا غاب الحق وقصّر أهله في بيانه.

- عدم التحرج أو التردد في بيان الحق الوارد في القرآن الكريم، والدعوة إليه ونشره بين الناس وبيان أدلته وبراهينه والرد على أهل الباطل والزيغ والضلال.

- البحث دائما عن الحق، الوقوف معه ومعرفة أهله، فمن عرف الحق عرف أهله، وإذا عرف أهله لزمه أن يكون معهم.

- بذل الغالي والنفيس في الدفاع عن الحق الذي أنزله الله تعالى وبذل غاية الوسع في ذلك.

- اللهم اجعلنا من أهل الحق وجنوده وتوفنا وأنت راض عنا يا رب العالمين.

 

[1]  تفسير الطبري (15 / 61).

[2]   تفسير السعدي ( 464).

[3] تفسير الطبري (1 / 431).

[4] تفسير السعدي (1 / 449).

[5] الأساس في التفسير (5 / 2512).

[6] تفسير السعدي(373).

[7]  تفسير ابن كثير (6 / 210).

[8]  تفسير السعدي (609).

[9]  الأساس في التفسير)7/4040).