عظمة القرآن في القرآن-5- المعجزة الخالدة (الإعجاز الدائم)
بعد أن بيَّن الله سبحانه أن القرآن لا ريب فيه، تحدى المشركين بأن يأتوا بسورة مثله، فقال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 23).
ولم يكن هذا التحدي الأول، بل كان التحدي الأخير، فقد سبقه تحدٍ بأن يأتوا بمثله ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور ثم بسورة...
قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: 88).
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (هود: 13).
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (يونس: 38).
فالله جعل القرآن معجزة خالدة لتبقى شاهدة على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم واستمرار رسالته إلى يوم القيامة، وقد تحدى الله سبحانه وتعالى الإنس والجن بهذا القرآن فلم يقدر أحد منهم على الإتيان بمثله، وسيبقى هذا التحدي قائما مادامت السماوات والأرض.
وإذا عجز فصحاء العرب وفرسان البلاغة في زمن الرسول r عن مواجهة هذا التحدي والإتيان بمثل هذا القرآن أو سورة من مثله فغيرهم أعجز.
ولذلك بين النبي r أن القرآن هو المعجزة التي أعطاه الله إياها لتكون دليلا على صدقه وصدق رسالته إلى قيام الساعة، كما كانت العصا معجزة لموسى، وإحياء الموتى معجزة لعيسى، والناقة معجزة لصالح عليهم السلام. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"([1]).
يقول ابن حجر: "أي أن معجزتي التي تَحدَّيت بها الوحيُ الذي أنزل عليّ، وهو القرآن لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه، ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره؛ لأن كل نبي أعطى معجزة خاصة به لم يعطها بعينها غيره تحدى بها قومه... قيل المراد أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزه القرآن مستمرة إلى يوم القيامة وخرقه للعادة في أسلوبه وبلاغته وأخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه"([2]).
وعلق النووي على هذا الحديث بقوله: "وقوله صلى الله عليه وسلم: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً) علم من أعلام النبوة فإنه أخبر عليه السلام بهذا في زمن قلة المسلمين ثم منَّ الله تعالى وفتح على المسلمين البلاد وبارك فيهم حتى انتهى الأمر واتسع الإسلام في المسلمين إلى هذه الغاية المعروفة ولله الحمد على هذه النعمة وسائر نعمه التي لا تحصى، والله أعلم"([3]).
وقد تعددت جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، وأعظمها الإعجاز البياني، وسأخصص له مقالاً خاصاً به إن شاء الله تعالى([4]).
وقد ذكر العلماء جوانب متعددة من الإعجاز في القرآن إضافة إلى إعجازه البياني، من ذلك:
- الإعجاز التشريعي: فهو تشريع شامل كامل، وعلى الرغم من أن ألفاظ القرآن ونصوصه التشريعية معدودة إلا أنه صالح لكل بني الإنسان في كل زمان ومكان. ويحقق مصالح العباد في القرون الحديثة كما كان يحققها في القرون السابقة.
ذلك أنه ثابت في أصوله وأسسه، مرن في التعامل مع المستجدات بما يتوافق مع هذه الأصول، وبالتالي تجاوز القرآن أصعب مشكلة تواجهها القوانين البشرية بشكل عام هي مشكلة التطور، فنصوص أي قانون محدودة، والحوادث متجددة، وبالتالي لا يمكن أن يواكب الثابتُ والمحدودُ المتغيرَ والمتطورَ، ولذلك كثيراً ما يضطر واضعوا القوانين إلى تعديلها وتغييرها لتواكب التطور. لكن القرآن الكريم نصوصه ثابتة لا تتغير، وهي في الوقت ذاته قادرة على مواكبة أي تطور تصل إليه البشرية على مر الأزمان، وليس وراء هذا التشريع إلا اتباع أهواء الجهال وأهل الضلال، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18).
- الإعجاز العلمي: وهو إخبار القرآن الكريم والسنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم([5]).
وهذا دليل على أن القرآن من عند الله تعالى وأنه معجزة للنبي r يعترف له بها أهل العلوم الذين لا يستسلمون إلا للعلم، ولا يفهمون إلا لغة العلم، تحقيقاً لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
وهناك الكثير من الحقائق التي أثبتها العلم التجريبي وذكرها القرآن قبل أن يتوصل إليها العلماء بقرون متطاولة، من ذلك: مراحل خلق الإنسان. أصل السماوات والأرض.
- الإعجاز التاريخي([6]): ذكر القرآن الكريم عدداً كبيراً من الأحداث التاريخية وقصص السابقين بدءا من خلق آدم عليه السلام وحتى زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بصورة مُوَثَّقة، وبِدِقَّة متناهية، لا يَصِلُ إليها المؤرِّخون مهما أُوتوا من أدلَّة مادِّيَّة.
وقد بين القرآن الحكمة من ذلك بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
ولم يقتصر الإعجاز التاريخي على الماضي بل شمل حتى بعض أحداث المستقبل، التي أخبر القرآن عنها قبل وقوعها مثل: انتصار الروم على الفرس، قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ ( 2 ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( 3 ) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( 4 ) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 5 )} [الروم: 1-5].
- الإعجاز النفسي: ويتمثل هذا الإعجاز في جوانب متعددة منها:
- حديث القرآن عن النفس البشرية، وتصرفاته وردود أفعالها، ولا غرابة في ذلك فالله خلق النفس البشرية: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14 ).
- تأثيره في نفوس السامعين، يقول الإمام الخطابي: (قلت في إعجاز القرآن وجهاً آخر، ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن، منظوماً ولا منثوراً، إذا قرع السمع خلَص له إلى القلب من اللذة والحلاوة حال، ومن الروعة والمهابة حال أخرى، ما يخلص منه إليه)([7]).
فالأداء القرآني له سلطان على القلوب ليس للأداء البشري، حتى ليؤثر – أحيانا – بتلاوته على غير العرب.
مقتضيات كون القرآن معجزة خالدة:
وكون القرآن الكريم معجزة خالدة يقتضي منا أن نزداد إيماناً ويقيناً وأن نحارب الشبهات والشكوك التي يبثها الشيطان وأتباعه ليصرفونا عن كتاب الله تعالى أو يشككونا فيه.
كما يقتضي منا أن ينفر بعضنا لإثبات إعجاز القرآن الكريم في مختلف الجوانب ونشر هذه المعجزات في العالمين ليكون ذلك تثبيتا للمؤمنين وداعياً لغيرهم إلى الحق لعله يكون سببا في إسلامهم.
أن نكون على يقين بوعد الله تعالى بنصر هذا الدين وانتشاره ليتحقق رجاء النبي صلى الله عليه وسلم: "فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"([8]).
جعلنا الله من عباده الموقنين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
1]) ([صحيح البخاري (4981). صحيح مسلم (402).
([2]) فتح الباري - ابن حجر - (9 / 7).
([3]) شرح النووي على مسلم (1 / 278).
([4]) انظر مقال: البيان الأفصح.
([5]) نشرة: حقائق علمية في القرآن الكريم والسنة بهرت العالم، هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ص (4).
[6]) (انظر: الإعجاز التاريخي في القرآن الكريم، د. راغب السرجاني، موقع قصة الإسلام. على الرابط:http://goo.gl/TZKH9
([7]) الخطابي، ثلاث رسائل في الإعجاز ص 70.
[8))( صحيح البخاري (4981). صحيح مسلم (402).