عظمة القرآن في القرآن-3- هدى للمتقين

د. محمد محمود حوا

ذكرت في مقال سابق بعنوان (الصراط المستقيم) أن القارئ المتدبر لكتاب الله يلحظ الصلة بين قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} وما بدأَت به سورة البقرة بقوله تعالى: {الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} فبعد أن علَّمنا الله تعالى أن نطلب الهداية منه إلى الصراط المستقيم دلنا على محل الهدى وهو {ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي: القرآن الكريم.

وقال تعالى في وصف {ذَلِكَ الْكِتَابُ} {لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2).

الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته.. ولكن لمن؟

لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونورا ودليلا ناصحا مبينا؟

.. للمتقين.. فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب. هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك. هي التي تهيئ لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب[1].

فلا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن يقبل عليه بقلب سليم بقلب خالص، قلب يخشى ويتوقى، ويحذر أن يكون على ضلالة، أو أن تستهويه ضلالة.. وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقياً، خائفاً، حساساً، مهيأً للتلقي... قلب امتلأ بالتقوى.. وهي حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة، وحذر دائم، وتوق لأشواك الطريق.. طريق الحياة.. الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات، وأشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوف والهواجس، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعاً ولا ضراً. وعشرات غيرها من الأشواك[2].

ويتساءل الإمام الطبري فيقول: "فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتابُ الله نورًا إلا للمتّقين، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه رّبنا عزّ وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين، ورشادًا لغير المؤمنين، لم يخصُصِ الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى، بل كان يعُمّ به جميع المنذَرين. ولكنه هدًى للمتقين، وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين، وَوَقْرٌ في آذان المكذبين، وعمىً لأبصار الجاحدين، وحجةٌ لله بالغةٌ على الكافرين. فالمؤمن به مُهتدٍ، والكافر به محجوجٌ[3]"[4].

لكن هذا التخصيص بالمتقين جاء عاماً للناس في قوله تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ}، فهل هناك تعارض؟

الجواب: لا؛ لأن القرآن فيه الهداية لجميع الخلق. لكن الأشقياء لم يرفعوا به رأساً، ولم يقبلوا هدى الله، فقامت عليهم به الحجة، ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر، لحصول الهداية فهم الذين يهتدون به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية، والآيات الكونية.

ولأن الهداية نوعان: هداية البيان، وهداية التوفيق.

فالمتقون حصلت لهم الهدايتان، وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق.

وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها، ليست هداية حقيقية تامة[5].

ولو أردنا تتبع الآيات والأحاديث التي نصت على أن القرآن كتاب هداية لما وسعنا المقام، ولذلك سأذكر بعضاً منها على سبيل التمثيل لا الحصر.

قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185).

قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 52).

قال تعالى:  {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَاَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44).

مقتضيات كون القرآن هدى للمتقين

وكون القرآن {فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} يقتضي منا أن نتحقق بصفة التقوى، وهي: أن نجعل بيننا وبين عذاب الله تعالى وقاية، ونجتهد في العمل بما يرضي الله سبحانه، بفعل المأمورات وترك المنهيات، وقد رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تعريف التقوى بأنها: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.

كما يقتضي منا أن نجتهد في التحقق بصفات المتقين التي ذكرتها الآيات التالية لهذه الآية في سورة البقرة وفي غيرها من آيات القرآن الكريم لننال جزاء المتقين.

كما يقتضي منا أن نصحب أهل التقوى؛ لأن الله يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 67). وكما قال أبو الربيع الأعرج رحمه الله: صاحب أهل التقوى - إن صحبت - فإنهم أقل مؤونة وأحسن معونة.

جعلني الله وإياكم من المتقين المهتدين المفلحين.

 

 

[1]  بتصرف عن الظــــلال (1 / 38).

[2]  بتصرف عن الظـــــلال (1/39).

 [3]حجه يحجه فهو محجوج: غلبه بالحجة فهو مغلوب.

[4] تفسير الطبري (1 / 230).

[5]  بتصرف عن تفسير السعدي (1 / 40).