عظمة القرآن في القرآن -2 - الكتاب الكامل

عظمة القرآن في القرآن -2 – الكتاب الكامل

د محمد محمود حوا

ذكرت في المقال السابق بعنوان (الصراط المستقيم) نقلاً عن الأساس في التفسير أن القارئ المتدبر لكتاب الله يلحظ الصلة بين قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} وما بدأت به سورة البقرة بقوله تعالى: {الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} فبعد أن علَّمنا الله تعالى أن نطلب الهداية منه إلى الصراط المستقيم دلنا على محل الهدى وهو القرآن الكريم.

قال تعالى في وصف القرآن في مطلع سورة البقرة: {الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة:1- 2).

ولنبدأ بالقسم الأول من الآية: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2).

{ذلك}: اسم إشارة تشير إلى الصراط المستقيم كما يقول بعض علماء التفسير، فقد روى أبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط عن أحد شيوخه قوله: {ذلك} إشارة إلى الصراط في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} ، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب[1].

وقوله {ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم، والحق المبين. فـ {لا رَيْبَ فِيهِ} ولا شك بوجه من الوجوه، ونفي الريب عنه، يستلزم ضده، إذ ضد الريب والشك اليقين، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب[2].

{ذلِكَ الْكِتابُ} معناه: هذا الكتاب الكامل؛ لأن كلمة ذلِكَ فيها إشارة إلى بُعده عن أن يكون على اقتراب في المستوى من غيره، و{لا رَيْبَ فِيهِ} معناه لا شك فيه، وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير؛ لأن المنفي كونه موضعا للريبة والشك؛ لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه أحد، لا أن أحدا لا يرتاب، والهدى: هو الدلالة الموصلة إلى البُغية، والمتقي: هو من يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك، وإنما خص المتقون بالاهتداء لأنهم وحدهم المهتدون بكتاب الله[3].

وعلى فرض وجود من يرتاب فيه، فإن الله تحدى المشركين الذين يرتابون به فقال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة 23-24]. فلا نجاة لمن يرتاب في القرآن إلا أن يؤمن به فيكون إيمانه به وقاية له من النار، وإلا يفعل فمصيره إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، والعياذ بالله.

ويصح في الآية الوقف على {ذلِكَ الْكِتابُ} كما يصح الوقف على { ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فيه} وبحسب الوقف يتعدد المعنى.

فإذا وقفنا على {لا رَيْبَ} كان المعنى: هذا القرآن الذي لا يدانيه كتاب بلا شك، فيه هدى للمتقين. وفي هذه الحالة يكون في الآية إشارة إلى أن المتقين يأخذون هداية أخرى نفهمها من نصوص الكتاب ذاته، إذ المتقون مكلفون بالاهتداء بالسنة مع الكتاب، وبما أحال عليه الكتاب والسنة من طرق الاهتداء إلى حكم الله[4].

أما الوقوف على قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} فإنه يفيد أن أصل الريب منفي عن هذا الكتاب، بينما على الوقف الأول، فإن الشك منفي عن أن هذا الكتاب يدانيه كتاب آخر، ثم إن قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ في الوقف على {لا رَيْبَ فِيهِ} يعطينا أن هداية المتقين محصورة في الكتاب، ولا تنافي بين المعاني فهداية المتقين محصورة في الكتاب. ولكن الكتاب هداهم إلى اعتماد السنة والاهتداء بها، وإلى اعتماد الإجماع والاهتداء به، وإلى اعتماد القياس وغيره[5].

وقد ورد وصف القرآن بأنه الكتاب في آيات كثيرة، منها:

قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151).

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (البقرة: 176).

وقوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} (آل عمران: 3).

وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105).

وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} (الكهف: 1).

وقوله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (السجدة: 2).

وقوله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الجاثية: 2).

مقتضيات كون القرآن (كتاب)

وكون القرآن {كتاب} يقتضي منا أن نعتني بكتابته وضبطه، وهذا ما كان يفعله صحابة النبي رضي الله عنهم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم عندما ينزل عليه الوحي.

ومن بعده أمر أبو بكر رضي الله عنه زيداً رضي الله عنه بجمع المصحف، ثم نسخه الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه وأرسل تلك النسخ إلى مختلف الأمصار ليجمع الناس على مصحف إمام.

كما يقتضي منا عناية بالكتابة وعلومها المتعلقة بها، كعلم رسم المصحف وضبطه، وعلوم الخط العربي ولا شك أن هذه العلوم كلها خادمة للكتاب الأعظم.

ويقتضي منا أن لا نقبل أي نص على أنه قرآن ما لم يكن مكتوباً في مصاحفنا موثقاً بالكتابة المتصلة بالإسناد إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وموافقا لما تلقاه أئمة القراءة بالسند المتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم.

كما يقتضي منا تعظيماً للمصاحف التي كتب في القرآن الكريم، وكذلك كتب العلم التي تشتمل على آيات قرآنية. لأن ذلك من تقوى الله عز وجل، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج: 32).

كما يقتضي منا اتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وهدي أصحابه في التعامل مع القرآن الكريم تلاوةً وفهماً وتدبراً وتطبيقاً.

 

 

[1]  ينظر: تفسير البحر المحيط (1 / 32) .

[2]  تفسير السعدي (1 / 40).

[3]  ينظر: الأساس في التفسير (1 / 68) بتصرف.

[4]  ينظر: الأساس في التفسير (1 / 68).

[5]  ينظر: الأساس في التفسير (1 / 68).